أن تكيّف حياتك على «إذا» الشرطية... خديجة شكر السبت 20 أيلول 2025 تُحسب المراحل في عمر الإنسان عادة بالمواقيت، بالسنوات
أن تكيّف حياتك على «إذا» الشرطية...
خديجة شكر
السبت 20 أيلول 2025
تُحسب المراحل في عمر الإنسان عادة بالمواقيت، بالسنوات أو الأشهر، أو الأيام إذا نوينا أن نكون أكثر دقة... ولكن بعض المراحل في حياتنا لا يمكن أن تُحسب إلا بالمواقف، أو الذكريات.
إذا وضعنا جانباً السنة الفائتة، فإن كل سنيني السابقة بنيت على المواقف. تلك التي شاء أبي أن تتراكم بها تربيته لنا بالطريقة العملية، بعيداً من النظريات التي قد ينساها المتربي أمام أي امتحان.
خلال تقدمي في عمر البنوة، تدرجت الطرق، وكان والدي يبتكر دوماً، المفاهيم التربوية التي تدخل عقلي وقلبي، لكن بقي «الأسلوب الشرطي» سيد الأساليب والطرق عنده.
تعمّد أبي أن يريني بدقة هذا الترابط الأزلي، بين السعي في «فعل الشرط» والقدرة على ضمان الوصول إلى «جواب الشرط». ومع مرور الوقت صرت أنتظر «أداة الشرط» التي تزيّن أوائل جملة بفارغ الصبر، وتزيد متعتي كلما كان المطلوب أصعب، أو أكثر تحدياً لقناعتي، أنني سأكون أمام نتيجة أعظم ومكافأة أجمل في كل مرة.
كبرنا، وكبرت معنا أهدافه وآماله، واختلفت جمله الشرطية... ما عدت أسمع منه «إن تدرسي تنجحين» أو «إن رتبتي غرفتك صارت أجمل». ومع تغير مستوى الوعي لدينا، صرت أنتظر الجمل الشرطية التي تشق طريقي في الفكر والفعل، وبتّ أسمع توجيهاتٍ يساعدني استثمارها على فهمي لنفسي وللحياة، حتى حين كان يحاول إقناعي بأن أكون هادئة أكثر، وكان يربطها بجواب الشرط: «إن أطلت الصمت... صرت أكثر قدرة على التركيز». حتى حين كان يوجهني لأساليب التعلم، كان يستخدم الأسلوب نفسه ليُفهمني أن السعي من جانبي هو ما يؤثر في مكتسباتي: «إن تعرفت إلى الجغرافيا، سيسهل عليك فهم التاريخ».
كان تركيزه شديداً على تربيتنا أبناء وبنات، على أساس وعي وتربية تساعدهما على خدمة الخط الذي نذر حياته له، إلا أن بصماته، حتى التعليمية منها، ومهما حاول أن يجعلها جدية وصارمة، لكنها صبغت قلوبنا وأيامنا بأرق وأحن اللحظات... وتركت لنا كمّاً هائلاً من الذكريات.
ومجدداً، إذا وضعنا جانباً هذه السنة الفائتة، فإن وجداننا حافل بالذكريات، صحيح أنها متنوعةٌ بطريقةٍ مربكة، تارةً تتميز بالفرح وتارة بالشوق والبكاء، ومنها ما لا يزال محافظاً على الدهشة الغريبة وكأنه في أولى لحظاته...
لكني إذ أستعيد السنوات الخوالي، فإن أبرز ما يلفت انتباهي، هي تلك الذكريات التي صنعت ذاكرتنا الجسدية. كأن نعلم مثلاً أن والدنا وصل من رنة مفتاحه، فتتحرك أجسادنا من دون تفكير باتجاه الباب. أو أن نعرف من الطريقة التي يجلس بها، أنه لا ينوي الخروج مجدداً، فنتعارك على من منا سيكون إلى جانبه أكثر، قبل أن ندرك بتلقائية من نبرة صوته أنه بحاجة إلى الهدوء، فتستكين أصواتنا مباشرة. أو أن نفهم من نظرةٍ، أن الاتصال الذي تلقّاه الآن يوجب علينا أن ننسحب من الغرفة، أو أن نفهم من بسمته أن عملنا نال إعجابه، فنسعى إلى تكراره. وعلى هذا المنوال، فإن كل حاسةٍ لدي كانت مبرمجةً على قياساتٍ خاصة مع أبي.
لم أستبعد هذا العام من حسابات الذكريات؟
لأن هذا العام ،كان، بجدارة العام المفصلي في الكثير من التحولات، فقد تحولت فيه ظروف حياتنا على شتى الصعد. كما تحولت منبهات الذاكرة لدي من عقرب الساعة إلى ميزان الفقد. فصرت أحسب الأيام بحسابات «البُعد» وأرتب المواقف بحسب التسلسل الزمني لتواريخ الارتحالات. وتبدلت في هذا العام مصنفات حياتي، وكذلك ذاكرتي الجسدية، والبرمجة الخاصة بحواسي. واليوم صارت عيناي تعرف كيف تلتقط وتحفظ أواخر اللحظات في وجوه الشهداء، وينبهني أنفي إلى انتهاء تجهيز الجثامين من شدة رائحة الكافور، وتحسب قدمي بتلقائيةٍ المسافة الكافية للوصول إلى قاع القبور، وأدرك بطريقة حسابية مبهمة الشعور متى يحين الوقت لمسح الدموع والعودة إلى العمل.
تبدلت هذا العام أحوالنا، وتغيرت أنماط حياتنا، بل وتراكمت على أبواب قلوبنا الكثير من المشاعر التي لم يتسنَّ لنا حتى الآن أن نرتبها.
قاسيةٌ كانت هذه السنة، قاسيةٌ على قلبي لشدة تكرار الرحيل، وقاسيةٌ على وجداني لقلة حيلتي في التخفيف عمن حولي، وخاصة عوائل الشهداء. لكني أذكر أن واحدة من أقسى لحظات هذا العام، كانت عندما انتبهت فجأةً وأنا أسمع نفسي قائلة: «بابا يحب السمك» ثم أستدرك أن الجملة الصحيحة الآن هي «كان بابا يحب السمك»...
لقد بات الحديث عنك يا أبي لا يصح إلا بصيغة الماضي، حتى وإن كانت إنجازاتك تكفي لتصريف كل أفعال المستقبل.
أجل، تبدلت مصفاة الذاكرة الحسية والجسدية عندي في هذا العام، وقد تبدو ذكرياتي الآن مبعثرة، رغم أنها أكثر زخماً. ولا أقدر الآن على ترتيبها. فأنتظر، إلى أن يأتي الحديث عنها بطريقة مختلفة، سيّما وأنّ ما استجد عليّ الآن، هو «الأفعال الماضية» التي قد ترافقني لوقت طويل.
لكني، في قواعد حياتي التي سيّجها أبي بإتقانه، ثمة صيغٌ لن تتغير، كما بعض التركيبات اللغوية التي حفرها في عقلي مثل وشم أبدي.
غاب والدي، لكن الشرطية التي علمني إياها، حاضرةً في كل تجليات حياتي. وإذا أردت اليوم أن أقف لأفهم ماذا جرى أو ماذا يجري، أو إن أردت أن أفكر في الآتي، فلن أجد أفضل من الشرطية الواردة في الآية الكريمة من سورة محمد، حين قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا، إن تنصروا الله ينصركم».
ولو أردت أن أعرب الآية، سأجد فعل الشرط واضحاً بـ«إن تنصروا الله»، وجوابه أوضح «ينصركم». وأشهد أني رأيت بعيني، منذ طفولتي، أن أبي ورفاقه وتلامذتهم عاشوا لنصرة الله. فإذا كنت أثق بوعود أبي، فكيف لا أثق بوعد ربي؟
علّمنا والدي، أن نقوم بواجباتنا، وأن نترك أمر التدبّر إلى الله، واليوم، وقد رأيت قادتنا ومجاهدينا الذين نصروا الله بحياتهم وشبابهم وعقولهم وأجسادهم حتى آخر نفس، كما أرى بقيتهم الكثير، كيف يستكملون نصرة الله والدفاع عمّا أوجبه عليهم، فهذا يجعلني أنتظر، جواب الشرط الإلهي، وأنا أعلم تمام العلم أني غير مضطرة إلى تبرير التوقيت والتفصيل الآتي حتى لذاتي، فالنصر، الآتي من وعد الله، سيبقى تدبيره، زمناً وكيفية بيد الله، وعلى يد من يختار من رجاله!.
ان ما ينشر من اخبار ومقالات لا تعبر عن راي الموقع انما عن رأي كاتبها